حفار القبــور

[b][b][b][size=12]فضحك مقهقها بصوت يضارع ضجيج العاصفة ثم قال:[/b][/b][/b]
[b][b][b]أنت جبان تخافني وتخاف أن تخافني ، فخوفك مزدوج ولكنك تحاول إخفاءه [/b][/b][/b]
[b][b][b]عني وراء خداع أوهى من خيوط العنكبوت فتضحكني وتغيظني .[/b][/b][/b]
[b][b][b]ثم جلس على الصخر فجلست قسر إرادتي محدقا إلى ملامحه المهيبة.[/b][/b][/b]
[b][b][b]وبعد هنيئة خلتها ألف عام نظر إلى مستهزئا وسألني قائلا : ما اسمك ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت : اسمي عبد الله[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال : ما أكثر عبيد الله وما أعظم متاعب الله بعبيده ![/b][/b][/b]
[b][b][b]فهلا دعوت نفسك سيد الشياطين وأضف بذلك إلى مصائب الشياطين مصيبة جديدة ؟ [/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: اسمي عبد الله وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي فلن أبدله باسم آخر .[/b][/b][/b]

[b][b][b]فحنيت رأسي مفكرا في كلماته ، مسترجعا إلى حافظتي رسوم أحلام شبيهه بحقيقته[/b][/b][/b]
[b][b][b]ثم عاد فسألني قائلا: وما صنعتك ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت : أنظم الشعر وأنثره ، ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: هذه مهنة عتيقة مهجورة لا تنفع الناس ولا تضرهم . [/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت : وما عسى أن أفعل بأيامي وليالي لأنفع الناس ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: اتخذ حفر القبور صناعة تريح الأحياء من جثث الأموات المكردسة حول منازلهم [/b][/b][/b]
[b][b][b]ومحاكمهم ومعابدهم .[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت : لم أر قط جثث الأموات مكردسة حول المنازل ![/b][/b][/b]

[b][b][b]قلت وقد ذهب عني بعض الوجل :[/b][/b][/b]
[b][b][b]وكيف أميّز بين الحي والميت وكلاهما يرتعش أمام العاصفة ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: إن الميت يرتعش أمام العاصفة ، أما الحي فيسير معها راكضا ولا يقف إلا بوقوفها.[/b][/b][/b]
[b][b][b]واتكأ إذاك على ساعده فبانت عضلاته المحبوكة كأصول سنديانه مملوءة بالعزم والحياة[/b][/b][/b]
[b][b][b]ثم سألني قائلا : أمتزوج أنت ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: نعم وزوجتي امرأة حسناء وأنا كلف بها .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال : ما أكثر ذنوبك ومساوئك ! إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار[/b][/b][/b]
[b][b][b]فإن شئت أن تتحرر طلّق امرأتك وعش خاليا . [/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: لي ثلاثة أولاد كبيرهم يلعب بالأكر وصغيرهم يلوك الكلام ولا يلفظه[/b][/b][/b]
[b][b][b]فماذا أفعل بهم ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال : علّمهم حفر القبور أعط كل واحد رفشاَ ثم دعهم وشأنهم .[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: ليس لي طاقة على الوحدة والانفراد ، فقد تعودت لذة العيش بين زوجتي وصغاري [/b][/b][/b]
[b][b][b]فإن تركتهم تركتني السعادة .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: ما حياة المرء بين زوجته وأولاده سوى شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض . [/b][/b][/b]
[b][b][b]ولكن إن كان لابد من الزواج فاقترن بصبية من بنات الجن . [/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت مستغربا : ليس للجن حقيقة فلماذا تخدعني ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: ما أغباك فتى !! ليس لغير الجن حقيقة [/b][/b][/b]
[b][b][b]ومن لم يكن من الجن كان من عالم الريب والالتباس .[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: وهل لصبايا الجن ظرف وجمال ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: لهن ظرف لا يزول وجمال لا يذبل .[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: أرني جنية فأقنع .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: لو كان بإمكانك أن ترى الجنية وتلمسها لما أشرت عليك بزواجها .[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: وما النفع من زوجة لا تُرى ولا تُمس؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال : هو نفع بطيء ينتج عنه انقراض المخاليق والأموات الذين يختلجون [/b][/b][/b]
[b][b][b]أمام العاصفة ولا يسيرون معها .[/b][/b][/b]
[b][b][b]وحول وجهه عني دقيقة ثم عاد فسألني قائلا: وما دينك؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قلت: أؤمن بالله وأكرم أنبياءه وأحب الفضيلة ولي رجاء بالآخرة .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقال: هذه ألفاظ رتّبتها الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك . [/b][/b][/b]
[b][b][b]أما الحقيقة المجردة فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك ولا تكرم سواها ولا تهوى غير ميولها[/b][/b][/b]
[b][b][b]ولا رجاء لك إلا بخلودها. منذ البدء والإنسان يعبد نفسه ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة [/b][/b][/b]
[b][b][b]باختلاف ميوله وأمانيه ، فتارة يدعوها البعل وطورا المشتري وأخرى الله .[/b][/b][/b]

***

[b][b][b]ومرت دقيقة وأنا أفكر بأقواله فأجد فيها معاني أغرب من الحياة [/b][/b][/b]
[b][b][b]وأهول من الموت وأعمق من الحقيقة . [/b][/b][/b]
[b][b][b]حتى إذا ما تاهت فكرتي بين مظاهره ومزاياه ، هاجت ميولي لاستعلان أسراره وخفاياه[/b][/b][/b]
[b][b][b]صرخت قائلا: إن كان لك رب قل لي من أنت ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: أنا رب نفسي .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: وما اسمك ؟ [/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: الإله المجنون.[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: وأين ولدت؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: في كل مكان .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: ومتى ولدت ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: في كل زمان .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: مّمن تعلمت الحكمة ، ومن ذا الذي باح لك بأسرار الحياة وبواطن الوجود؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: لست بحكيم ، فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء[/b][/b][/b]
[b][b][b]بل أنا مجنون قوي أسير فتميد الأرض تحت قدمي وأقف فتقف معي كواكب النجوم .[/b][/b][/b]
[b][b][b]وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة ، وفهمت أسرار الوجود[/b][/b][/b]
[b][b][b]والعدم بعد أن عاشرت ملوك الجن وجبابرة الليل .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: وماذا تفعل في هذه الأودية الوعرة وكيف تصرف أيامك ولياليك ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: في الصباح أجدّف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء[/b][/b][/b]
[b][b][b]أسخر بالطبيعة ، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها.[/b][/b][/b]
[b][b][b]فقلت: وماذا تأكل وماذا تشرب وأين تنام؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]قال: أنا والزمان والبحر لا ننام ؟[/b][/b][/b]
[b][b][b]ولكنّنا نأكل أجساد البشر ونشرب دماءهم ونتحلى بلهاثهم .[/b][/b][/b]
[b][b][b]وانتصب إذّاك مبكّلا ذراعيه على صدره ثم حدق إلى عيني وقال بصوت عميق هادئ :[/b][/b][/b]
[b][b][b]إلى اللقاء ، فأنا ذاهب إلى حيث تلتئم الغيلان والجبابرة .[/b][/b][/b]
[b][b][b]فهتفت قائلا: أمهلني دقيقة في سؤال آخر.[/b][/b][/b]

***

[b][b][b]واختفى عن بصري وراء ستائر الدجى وتركني خائفا طائشا محتارا به وبنفسي .[/b][/b][/b]
[b][b][b]ولما حولت قدمي عن ذلك المكان سمعت صوته متموجا بين تلك الصخور الباسقة قائلا :[/b][/b][/b]
[b][b][b]إلى اللقاء ! إلى اللقاء ![/b][/b][/b]
[b][b][b]وفي اليوم التالي طلقت امرأتي وتزوجت صبية من بنات الجن.[/b][/b][/b]
[b][b][b]ثم أعطيت كل واحد من أطفالي رفشاً ومحفراً وقلت لهم: [/b][/b][/b]
[b][b][b]اذهبوا وكلما رأيتم ميتا واروه التراب .[/b][/b][/b]
[b][b][b]ومن تلك الساعة إلى الآن وأنا أحفر القبور وألحد الأموات ، [/b][/b][/b]
[b][b][b]غير أن الأموات كثيرون وأنا وحدي وليس من يسعفني !![/b][/b][/b]

***

[b][b][b]جبران خليل جبران[/b][/b][/b]