السنن في القرآن والسنة
--------------------------------------------------------------------------------
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد :
فحديثنا حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح.
إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين -أيا كانت ثقافته وتدينه-:هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى ؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، إن معظم المسلمين الصادقين اليوم يتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدركون وهم يعيشون في هذه المرحلة سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟
إن هذه السنة واحدة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة –ربما تطول – حول هذه السنن التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها.
إن الله تبارك وتعالى سن سننا تحكم هذا الكون وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهما سليما دقيقا، وتجعلهم يتنبؤون أو يتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضا تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.
السنن في القرآن:
إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلا حتى ندرك أهمية هذه السنن وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيرا في كتاب الله تبارك وتعالى.
أول أمر يدل على ذلك إيراد القصص في القرآن، فهذا دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفرادا أم مجتمعات، والقرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين قال تعالى
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن )
،وقال: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ).
ولعلنا أن نتسأل لماذا تورد هذه القصص ؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين ؟أليس للاعتبار والاتعاظ ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس ؟ كيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم سيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم سيحصِّلون ما حصَّل أولئك.
ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأُهلكوا؟ أو أن قوما من الأقوام آمنوا فنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة؛ فيقيس حاله بحالهم.
ثانياً: يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار؛ فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، قال تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، قال واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد) ، إذا فلئن سلك قومٌ سبيل قوم لوط فهم معرَّضون أن يصيبهم ما أصاب قوم لوط وماهي من الظالمين ببعيد.
ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلي الله عليه وسلم -ولهم قصب السبق في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائه من قبل -: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) ، إذاً لو فعلتم ما فعل أولئك سيصيبكم ما أصابهم؛ فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك سيصيبه ما أصابهم لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ.
وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيبا على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم وتكذيبهم ثم ح
العذاب بهم
( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم ).
ويقول تبارك وتعالى أيضا في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيبا على هذه المواطن في سورة القمر
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر. كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر)
إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك ويأمر عباده أن يتعظوا بمواقفهم.
والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصا بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضا في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عبادة كما قال عز وجل
(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر علية فنادي في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )،
فمن كان كمثل ذي النون علية السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى استحق النجاة.
وقال عز وجل ف
ا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) والآيات في هذا الباب كثيرة.
إذا فالتعقيب الذي يأتي على قصص القرآن أمراً بالاتعاظ والاعتبار دليل على ثبوت هذه السنن التي تحكم حياة الناس.
ثالثا: يأتي أيضا في قصص القرآن التعليل للجزاء - سواء أكان بالعقوبة أم بالأنعام- بوصف مناسب؛ والتعليل بالوصف المناسب دليل على أنة علة –كما يقول أهل الأصول- يقول تبارك وتعالى في شأن القوم الذين أهلكهم
(إنهم كانوا قوما عمين) ،
فبعد أن حكى إهلاكهم وصفهم بأنهم كانوا قوما عمين، وهذا يعني أن هذا هو العلة في إهلاكهم، ويعني أن من شابههم في العلة سيشابههم في المصير ويصل إلى ما واصلوا إليه.
وقال تبارك وتعالى
(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين)
،فهذا دليل على أن العلة التي من أجلها قطع دابر هؤلاء أنهم كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين.
وقال عز وجل في جزائه للمؤمنين: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) ،
وهذا يعني أن العلة في نجاتهم هي الإيمان والإسلام، وبالتالي فمن شاركهم في الوصف شاركهم النتيجة والنهاية .
وقال تبارك وتعالى في شأن نبي الله العفيف الطاهر يوسف علية السلام، الذي تعرضت له الفتن فلجأ إلى خالقه تبارك وتعالى مستعيناً به أن ينجيه وأن يخلصه قائلاً (رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ،
يقول تبارك وتعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنة كيدهن) ،
ثم يقول تبارك وتعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ،
فعلة صرف السوء والفحشاء عنة أنه كان من عباد الله المخلصين، وهذا يعني أن من كان من عباد الله المخلصين فإنه يستحق هذا الجزاء وهذا النعيم.
رابعا: يأمر الله تبارك وتعالى في كتابة بالسير في الأرض والاتعاظ بما حصل للسابقين في آيات كثيرة كما قال تبارك وتعالى (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم)
،ويقول: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وأثاروا الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وماكان لهم من الله من واق )، ويقول تبارك وتعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
والآيات التي تأمر بالمسير في الأرض والاتعاظ بمصارع الغابرين كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا يعني أن هناك سننا ثابتة وأن هناك سننا تحكم حركة التاريخ وحياة الناس وإلا فكيف يتعظ الناس ويعتبرون؟ إنهم حين يسيرون في الأرض ويتأملون في أحوال الأمم التي مضت وخلت سيدركون أن تلك الأمم ما آلت إلى ما آلت إليه، وما استحقت النكال والعذاب إلا لتكذيبها وإعراضها، وهذا يعني أنهم إن ساروا على نفس الطريق فسوف يصلون إلى النتيجة نفسها، وسوف تحق عليهم السنة نفسها، وسيصلون إلى المصير نفسه.
الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس،أفراداً ومجتمعات.
فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المترفون ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بح
الهلاك والتدمير للقرية أيا كانت هذه القرية ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )، وتبقى هذه الآية نذيرا يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله فيخشون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو هؤلاء لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك فليسوا يعلمون الغيب، وليسوا يقرؤون ما وراء الأحداث، لكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.
ويخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمتكبرين المتجبرين، هي أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ يقول تبارك وتعالى ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك )
على أحد القولين في تفسير هذه الآية ،ويقول تبارك وتعالى ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) ،كأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة قد تواصوا عليها واتفقوا، إنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم، أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء واتهامهم بما ليس فيهم.
ويخبر تبارك وتعالى متوعداً أولئك الذين نجم نفاقهم من أهل الإرجاف والنفاق أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى، فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، قال عز وجل (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا. ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا )
، إنها سنة الله أن يحل بهؤلاء المنافقين المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.
ويخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه فيقول ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ).
ويقول تبارك وتعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين. وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) ، ثم يقول تبارك وتعالى : ( وقد خلت سنة الأولين ).
ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار ( ولو قاتلكم الذين كفروا
وا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ،ثم يأتي التأكيد على أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.
ويقول تبارك وتعالى أيضا مخبرا عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب ( فلما رأوا بأسنا قالوا أمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) .
هذا غيض من فيض، وهذه شواهد يسيرة من الحديث الكثير المستفيض في كتاب الله تبارك وتعالى عن سنن الله عز وجل، يعطينا دلالة قاطعة أن هناك سننا تحكم حياة الناس، جدير بهم أن يتأملوها، وأن يعوها ويتدبروها، وأولى الناس بالاعتناء بها هم أولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم.
السنن في السنة النبوية:
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين :" فوا الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم " فهي سنة لا تتخلف، حين يتنافس الناس في الدنيا والدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم .
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله r فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لايقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يارسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا. فقال:"ثكلتك أمك يازياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟" فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة، امرأة من بني مخزوم سرقت أو كانت تستعير المتاع فتجحده، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأرادوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد ويسقط عنها هذه العقوبة، وقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله
وأنا الآن أسألكم : هل ترون واقع المسلمين الآن واقع شرعي يرضي الله ؟؟؟؟؟
أتمنى مشاركتكم